فصل: تفسير الآيات (56- 57):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (45):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً} [45].
{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ} أي: على هؤلاء المشركين: {جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} أي: لا يصدقون بالبعث ولا يقرون بالثواب والعقاب، جزاء على الأعمال: {حِجَاباً مَّسْتُوراً} أي: من الجهل وعمى القلب. فيحجب قلوبهم عن أن يفهموا ما تقرؤه عليهم فينتفعوا به، عقوبة منا لهم على كفرهم.
ومعنى كون الحجاب مستوراً، أي: عن العيون، فلا تدركه أبصارهم. وعن الأخفش: إن مفعولاً يرد بمعنى فاعل كميمون ومشؤوم بمعنى يامن وشائم. كما أن فاعلاً يرد بمعنى مفعول كماء دافق.

.تفسير الآية رقم (46):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} [46].
{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أي: أغطية كثيرة، جمع كنان: {أَن يَفْقَهُوهُ} أي: كراهة أن يفقهوه: {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} أي: صمماً يمنعهم من استماعه. وذلك ما يتغشاها من خذلان الله تعالى إياها، عن فهم ما يتلى عليهم والإنصات له.
قال أبو السعود: هذه تمثيلات معربة عن كمال جهلهم بشؤون النبي صلى الله عليه وسلم، وفرط نبوُّ قلوبهم عن القرآن الكريم، ومج أسماعهم له. جيء بها بياناً لعدم فقههم لتسبيح لسان المقال، إثر بيان عدم فقههم لتسبيح لسان الحال، وإيذاناً بأن هذا التسبيح من الظهور بحيث لا يصور عدم فهمه، إلا لمانع قوي يعتري المشاعر فيبطلها، تنبيهاً على أن حالهم هذا أقبح من حالهم السابق.
{وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ} أي: غير مشفوع بذكره ذكر شيء من آلهتهم: {وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} أي: هرباً من استماع التوحيد. قال القاشانِيِّ: لتشتت أهوائهم، وتفرق همهم في عبادة متعبداتهم، من أصناف الجسمانيات والشهوات. فلا يناسب بواطنهم معنى الوحدة؛ لتألفها بالكثرة واحتجابها بها. ثم أخبر تعالى عما يتناجى به المشركون، رؤساء قريش، بقوله متوعداً لهم:

.تفسير الآيات (47- 48):

القول في تأويل قوله تعالى: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً} [47- 48].
{نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} أي: بسببه أو لأجله من الهزء والاستخفاف واللغو: {إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} أي: سحر، فجُنَّ فاختلط كلامه.
{انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ} أي: مثلوك بالشاعر والساحر المجنون: {فَضَلُّواْ} أي: عن الحق والهداية بك: {فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً} أي: فلا يهتدون لطريق الحق لضلالهم عنه وبعدهم منه، وأن الله قد خذلهم عن إصابته. أو المعنى فلا يستطيعون سبيلاً إلى طعن يمكن أن يقبله أحد، بل يخبطون بما لا يرتاب في بطلانه أحد. كالمتحير في أمره لا يدري ماذا يصنع.

.تفسير الآيات (49- 52):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} [49- 52].
{وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً} وهو ما بلي وتفتت: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} أي: يعظم في نفوسكم عن قبول الحياة ويعظم في زعمكم على الخالق إحياؤه. فإنه يحييكم ولا يعجزه بعثكم. فكيف إذا كنتم عظاماً مرفوتة وقد كانت موصوفة بالحياة قبل! والشيء أقبل لما عهد فيه مما لم يعهد: {فَسَيَقُولُونَ} أي: بعد لزوم الحجة عليهم: {مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ} أي: يحركونها برفع وخفض، تعجباً واستهزاءً: {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ} أي: ما ذكرته من الإعادة: {قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً}.
{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ} أي: يوم يبعثكم فتنبعثون. قال القاضي: استعار لهما الدعاء والاستجابة؛ للتنبيه على سرعتهما وتيسر أمرهما، وإن المقصود منهما الإحضار للمحاسبة والجزاء. انتهى.
وقيل: إنهما حقيقة كما في آية: {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق: 41]، وفي قوله: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} وجوه للمعربين. ككونه بدلاً من {قريباً} على أنه ظرف. أو منصوب بـ: {يكون} أو بمقدر كاذكر أو تبعثون وقوله تعالى: {بِحَمْدِهِ} أي: وله الحمد على ما أحضركم للجزاء وتحقق وعده الصدق: {وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} أي: تستقصرون مدة لبثكم في القبور والمضاجع لذهولكم عن ذلك الزمان. أو في الحياة الأولى، لاستقصاركم إياها، بالنسبة إلى الحياة الآخرة.

.تفسير الآيات (53- 54):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} [53- 54].
{وَقُل لِّعِبَادِي} أي: الذين آمنوا معك. إرادة تقريب أصحابهم إلى الصواب، كأمر البعث: {يَقُولُواْ} في النصيحة، الكلمة: {الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: فلا يخاشنوا أحداً، ولا يغلطوا بالقول: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} أي: يفسد ويهيج الشر والمراء، لتقع بينهم المضارة: {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} وقوله تعالى: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} خطاب لهؤلاء المشركين من قريش. أي: إن يشأ يرحمكم فيتوب عليكم برحمته وتنيبوا إليه. وإن يشأ يعذبكم بأن يخذلكم عن الإيمان، فتموتوا على الشرك فيعذبكم عليه يوم القيامة.
وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} أي: موكولاً إليك أمرهم، تقسرهم على الإيمان. وإنما أرسلناك مبشراً ونذيراً، تبلغهم رسالاتنا.

.تفسير الآية رقم (55):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} [55].
{وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: فلا يخفى عليه شيء فيهما. فهو أعلم بهؤلاء ضرورة. وفيه إشارة إلى رحمته تعالى ببعثة الرسل؛ لحاجة الخلق إليها، وإلى مشيئته فيمن يصطفي لرسالته، ويختار لنبوته. ويعلمه أهلاً لها. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} أي: لاقتضاء علمه وحكمته ذلك. فإنه أعلم بمن في السماوات والأرض وأحوالهم. فآتى موسى التوراة وكلمه. وعيسى الإنجيل، وداود الزبور. فضلهم بما آتاهم على غيرهم. وقد آتى محمداً القرآن ففضله به على الأنبياء كافة. وقوله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} أي: يشتمل على الحكمة وفصل الخطاب، ففضلناه به. قيل: الآية ردٌّ عليهم إذ استبعدوا أن يكون صلى الله عليه وسلم نبياً، دون من يعدُّونه عظيماً بينهم في الغنى والجاه. وذكر من في السماوات لإبطال قولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ} [الفرقان: 21] وذكر من في الأرض لرد قولهم: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] وتخصيص داود بالذكر، إشارة لتفضيل النبي صلى الله عليه وسلم كما دل عليه ما كتب فيه من: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] ففيه تلميح إلى ما وقع فيه من وصفه بما ذكر فيه. وإيثار الزبور على الملك، بيان لحيثية شرفه، وأن بما أوحي إليه من الكتاب والعلم، لا بالملك والمال، كذا قالوا. والظاهر أنه للإشارة إلى أن داود عليه السلام لم يكن في نشأته الأولى ممن يظن أنه يبلغ ما بلغ في الحكمة والملك، وقد اختصه الله بهما وميزه الله على أهل عصره. وإذ كان ذلك اختصاصاً ربانياً، فلا غرابة أن يختص سبحانه من العرب، من علم أنه أرجحهم عقلاً، وأكملهم فضلاً، لختم نبوته، وهداية بريته، بمنهاجه وشرعته.
وقوله تعالى:

.تفسير الآيات (56- 57):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [56- 57].
{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً}.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً}.
أي قل لهؤلاء المشركين، الذين يعبدون من دون الله من خلقه: ادعوا من زعمتموهم أرباباً وآلهة من دونه، عند ضر ينزل بكم، وانظروا هل يقدرون على دفع ذلك عنكم أو تحويله عنكم إلى غيركم، فتدعونهم آلهة، أي: فإنهم لا يقدرون على ذلك ولا يملكونه، وإنما يملكه ويقدر عليه خالقكم وخالقهم.
روى الطبري عن ابن عباس، أن الآية عني بها قوم مشركون، كانوا يعبدون المسيح وعزيراً والملائكة. فأخبرهم الله تعالى أن هؤلاء عبيده يرجون رحمته ويخافون عذابه، ويتقربون إليه بالأعمال. ونظير هذه الآية في النهي عن أن يشرك به تعالى الملائكة والأنبياء، قوله سبحانه: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عِمْرَان: 79- 80]، وفي قوله تعالى:: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} إشارة إلى أن العبادة لا تتم إلا بالرجاء والخوف. فبالرجاء تكثر الطاعات، وبالخوف تقل السيئات. وقوله تعالى: {مَحْذُوراً} أي: ينبغي أن يحذر منه ويخاف من حلوله. عياذاً بالله منه. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (58):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً} [58].
{وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً}.
إخبار بأنه حتم وقضى، أنه ما من قرية يتمرد أهلها على نبيهم، إلا ويبيدهم، أو ينزل بهم من العذاب شديده. وذلك لذنوبهم وخطيئاتهم وعدم استجابتهم لنبيهم، كما قال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود: 101]. وقال تعالى: {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} [الطلاق: 9] وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} [الطلاق: 8] الآيات. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (59):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً} [59].
{وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ} أي: التي تقترحها قريش: {إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} أي: إلا تكذيب الأولين الذين هم أمثالهم، كعاد وثمود. وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك. فاستوجبوا الاستئصال، على ما مضت به السنة الإلهية. وقد قضينا أن لا نستأصلهم، لأن منهم من يؤمن أو يلد من يؤمن. ثم ذكر بعض الأمم المهلكة بتكذيب الآيات المقترحة، فقال: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ} أي: أعطينا قوم صالح الناقة بسؤالهم: {مُبْصِرَةً} أي: بينة، تبصر الغير برهانها: {فَظَلَمُواْ بِهَا} أي: فكفروا بها وظلموا أنفسهم بسبب عقرها، فأبادهم الله عن آخرهم وانتقم منهم: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً} أي: وما نرسل الآيات المقترحة إلا تخويفاً للناس، ليعلموا السنة الإلهية مع العاتين، فيتذكروا ويتوبوا.
روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعوا، فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم، وإن شئت أن يأتيهم الذي سألوا، فإن كفروا، هلكوا كما أهلكت من كان قبلهم من الأمم. قال: «لا بل أستأني بهم»، وأنزل الله تعالى: {وَمَا مَنَعنَا أَن نُّرسِلَ} الآية. ورواه النسائي.

.تفسير الآية رقم (60):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً} [60].
{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} أي: علماً، فلا يخفى عليه شيء من كفرهم وتكذيبهم. ومنه ما جرى منهم، إثر الرؤيا والإخبار بالشجرة، من الجحود والهزء واللغو. كما قال سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} قال الأكثرون: يعني ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء من الآيات. فلما ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم للناس، أنكر بعضهم ذلك وكذبوا. وجعل الله ذلك ثباتاً ويقيناً للمخلصين. فكانت فتنة، أي: اختباراً وامتحاناً. وتمسك بهذا من جعل الإسراء مناماً؛ لكون الرؤيا مخصوصة بالمنام. وأجيب بأن قوله تعالى: {إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} يرده؛ لأن رؤيا المنام لا يفتتن بها أحد ولا يكذب. وجاء في اللغة الرؤيا بمعنى الرؤية مطلقاً وهو معنى حقيقي لها. وقيل: إنها حقيقة في رؤيا المنام ورؤيا اليقظة ليلاً. وقد ذكر السهيلي أنه ورد في كلام العرب بهذا المعنى، وأنه كالقربى والقربة. وقيل: إنه مجاز، إما مشاكلة لتسميتهم له رؤيا، أو جار على زعمهم. أو على التشبيه بها لما فيها من خرق العادة أو لوقوعها ليلاً، أو لسرعتها. أفاده الشهاب.
وروى الطبري عن الحسن في الآية هذه، قال: أسري به صلى الله عليه وسلم عشاء إلى بيت المقدس، فصلى فيه وأراه الله ما أراه من الآيات، ثم أصبح بمكة، فأخبرهم أنه أسري به إلى بيت المقدس. فقالوا له: يا محمد! ما شأنك؟ أمسيت فيه ثم أصبحت فينا، تخبرنا أنك أتيت بيت المقدس؟ فعجبوا من ذلك حتى ارتد بعضهم عن الإسلام.
وقال قوم: الآية في رؤياه صلى الله عليه وسلم التي رأى أنه يدخل مكة. فروى البريِّ عن ابن عباس، قال: يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُرِيَ أنه دخل مكة هو وأصحابه، وهو يومئذ بالمدينة، فعجل رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى مكة قبل الأجل، فرده المشركون، فقالت أناس: قد رُدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان حدثنا أنه سيدخلها. فكانت رجعته فتنتهم. وذلك عام الحديبية. ثم دخل مكة في العام المقبل. وأنزل الله عز وجل: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} [الفتح: 27] ولا يقال: إن السورة مكية وقصة الحديبية بعد الهجرة، لاحتمال أنه رأى تلك الرؤيا بمكة، ونزلت عليه هذه الآية. ولكنه ذكرها عام الحديبية؛ لأنه كان إذ ذاك بمكة. فعلم أن دخوله بعد خروجه منها. كذا قيل.
وذهب بعضهم إلى أن كثيراً من السور المكية ضم إليها آيات مدنية، كما في الإتقان. والطبري رجح الأول وفاقاً للأكثر. وقد قدمنا مراراً، أن السلف قد يريدون بقولهم: نزلت الآية في كذا. أن لفظ الآية مما يشمل ذلك. لا أنه كان سبباً لنزوله حقيقة. وعليه، فلا إشكال.
وقوله تعالى: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ} عطف على الرؤيا، والأكثرون على أنها شجرة الزقوم، المذكورة في سورة الصافات في قوله تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 62- 65] الآيات. وفتنتهم فيها ما رواه الطبري عن ابن عباس وقتادة، أن أبا جهل قال: زعم صاحبكم هذا- يعني النبي صلوات الله عليه- أن في النار شجرة، والنار تأكل الشجر! فكذبوا بذلك. وفي رواية: أن أبا جهل قال: أيخوفني بشجر الزقوم؟ ثم دعا بتمر وزبد وجعل يأكل ويقول: تزقموا، فما نعلم الزقوم غير هذا. والمراد بلعنها في القرآن: لعن طاعمها فيه، على أنه مجاز في الإسناد. أو الملعون بمعنى المؤذي لأنها تغلي في البطون كغلي الحميم. فهو إما مجاز مرسل أو استعارة. وقوله تعالى: {وَنُخَوِّفُهُمْ} أي: بذلك وبنظائره من الآيات: {فَمَا يَزِيدُهُمْ} أي: التخويف: {إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً} أي: تمادياً فيما هم فيه من الضلال والكفر.
قال المهايمي: أي: فلو أرسلنا إليهم الآيات المقترحة لقالوا إنه أجل من أحاط بأبواب السحر. فلا فائدة في إرسالها سوى تعجيل العذاب الدنيوي. لكنه ينافي إظهار دينه على الدين كله.
ثم أشار تعالى إلى أن هذا الطغيان من إتباع الشيطان. وأنه وحزبه، لعتوهم وتمردهم عن الحق، في النار، بقوله سبحانه: